الإدب الإسلامي

 

سوءُ الفهم قد يجرّ كبيرَ عناءٍ

 

 

بقلم : الأديب الإسلامي العربي الكبير

معالي الدكتور الشيخ عبد العزيز عبد الله الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

  

 

  

 

 

       سوء الفهم يأتي أحيانًا من خلل في التعبير، وأحيانًا من خلل في السمع، وأحيانًا من خلل في الإدراك. وقد يأتي سوءُ الفهم من مظهر عملٍ أخذ على غير ما قصد له، إما لنقص الإشارة، أو لجنوح التفسير.

       وقد لا يأتي من سوء الفهم كبيرُ عناء، ولا غاية ألم ، ويمر على أنه طرفة ، جلبت مرحًا ، أو أدّت إلى سرور، وأوجبت ابتسامة عريضة ، أو بجست ضحكة مجلجة .

       وبعضُ الناس قليلاً ما يحدث منهم، أو لهم، سوءُ فهم، وبعضُ الناس يكاد يكون هذا ملازمًا له. وقد استُغل هذا؛ ليكون أحيانًا مادة ثرة «لفيلم» كامل، أو مسلسل متعدد الحلقات، ومتعدد أنواع الأقوال أو الأفعال التي توجب سوءَ الفهم، أو انغلاق دلائل المقصود. وقد أصبحت مثل هذه القصص و«الأفلام» ذات رواج، وصار عليها من الإقبال ما أوجب الاستمرارَ فيها. وكان من أبرز هذه الأفلام ما أوقف التمثيل فيه على «لوريل» و«هاردي»، و«بادابوت» و«لوكستلو» و«فرناندل» في الأفلام الغربية، وإسماعيل ياسين، وحسن فايق في الأفلام المصرية .

       ومن أحسن الأمثال التي سمعتُها عن سوء الفهم، سوء الفهم الذي يحدث بين قط وكلب غريب عنه؛ فالكلب بوداعةٍ يقترب من القط عارضًا الصداقة. وطريقته – عندما يكون سعيدًا أو مستعطفًا – أن يحرك ذيله بحركة دائبة. أما القط فإنه في حالات العداء والتحفز يحرك ذيله، فإذا تقابل الإثنان، وبدأ الكلب يقترب من القط عارضًا الصداقة، ورأى القط الذيل المتحرك، استعدّ للهجوم والدفاع، فيبدأ بتحريك ذيله، طبيعة وغريزة؛ فيظن الكلب أن ما عرضه من الصداقة قد قبل؛ فيسرع في خطوه، نحو القط؛ فيسرع القط بالتأهب للهجوم، ظنًا أن ساعة الحرب قد اقتربت. وعندما يكون الكلب في متناول قفزة القط يفاجأ به كالسهم منطلقًا إلى وجهه، منشبًا أظفاره فيه بسرعة، ثم يهرب، فيقف الكلب محتارًا مندهشًا من هذا التحول المفاجئ، مما لا يجد له تفسيرًا. وقد يعيد عرض الصداقة دون أن يؤثر فيه الموقف السابق؛ ولكن القط في الغالب يكون قد ابتعد، وغنم السلامة من هذا الوحش الذي كان رافعًا خلفه علم العداء يلوح به .

       إن هذه صورة من أبرز صور سوء الفهم التي مرّت بي، لتوفر العناصر الموجبة لسوء الفهم فيها. وأهميتُها تأتي من أنها سوء فهم لفعل، وبين حيوانين وليس إنسانين .

       هذا ما يخص الحيوان، فماذا عن الإنسان، وسوء الفهم لديه، وهو أب الفهم وسيده؟

       أحيانًا تلعب الصدفة دورًا في سوء الفهم؛ واحتمال وقوع مثل هذا رهن بالصدفة. والقصةُ التالية تبين واحدة من هذه المرّات:

       «حكي أن السرّاج الورّاق جهّز غلامًا له، ليبتاع له زيتًا طيّبا، ليأكل به لفتًا، فأحضره، وقلبه على اللفت؛ فوجده زيتًا حارًا؛ فأنكر على الغلام ذلك؛ وأخذه وجاء إلى البيع، وقال له: لِم تفعل مثل هذا ؟

       فقال: والله يا سيدي ما لي ذنب؛ لأنه قال لي:

       أعطني زيتًا للسرّاج».(1)

       لا لوم على أحد، فالصدفة في أن اسم المشتري السّراج والسِّراج يوقد بالزيت، هي التي أدت إلى إعدام أكلة اللفت بالزيت المحروق بدلاً من الزيت البكر الطيب. والفرق الذي تسبب في هذا كله الشّدّةُ التي جاءت وهمًا في ذهن السامع بائع الزيت ؛ فأدت إلى ما أدت إليه من سوء فهم أدى إلى سوء عمل غير مقصود .

       وقد لا يكون التعبير أو السمع هو المسؤول عن سوء الفهم، أو الخطأ الذي ينتج بسببه، وإنما وجود أكثر من معنى للكلمة؛ فينطق المتكلم بها عمّا يهمه، ويفهمها السامع بما يهمه، وقد يكون بين قصد المتكلم وفهم السامع بُعد ما بين المشرقين. والقصةُ التالية تبين ذلك؛ على أن سوء الفهم الذي حدث لم ينتج عنه – والحمد لله – إصابات!

       مرّ بعض الصوفية ببغداد، وإذا بسوقي ينادي:

       «الخيار عشرة بدرهم»، فلطم الصوفي وجه نفسه، وقال:

       «إذا كان الخيار عشرة بدرهم، فكيف بالشِّرار».(2)

       وحق للصوفي الزاهد ألا يأتي في باله خيار الأكل، وأن ينصرف الذهن معه إلى خيار الناس وشرارهم؛ لأن هذا ما يتكرر على سمعه؛ ولا ندري عن هؤلاء الناس هل هم رقيق أو خدم مستأجرون، في رأي الصوفي !

       وقبل أن تدخل النُّقط في الكتابة العربية كان هناك سوء فهم كثير لقراءة بعض الكلمات التي لا يَحسِم مؤدى الجملة أمرها، ولابد أنه بقي منها شيء نُقِّط خطأ فيما بعد لهذا السبب. وقد يؤدي الاجتهاد في الكلمات التي لم تنقط إلى خطأ جسيم، قد يلمس حكمًا شرعيًا؛ وكانت الأحاديث من حسن الحظ محفوظة وتتسلسل من فرد إلى فرد، ومن جيل إلى جيل، مما جعل الكتابة أمرًا ثانويًا في بعض الأحيان؛ بل إن بعض العلماء ورواة الحديث يفتخرون أنهم لم يمسكوا قلمًا أو ورقة، ومحفوظهم من الحديث مئات الآلاف. وقد ورد هذا في ترجمات بعضهم في بعض الكتب من أمثال كتاب «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي .

       وقد فرّ من بين أصابع الضبط جمل محدودة، فأصبحت تذكر للطرافة والتسلية. والقصةُ الآتية إحداها :

       ذكر أبو حيّان في كتابه «البصائر»:

       «سمعت ابن شاهين المحدّث في جامع المنصور يقول في الحديث:

       «نهى النبي عن تشقيق الحطب» .

       فقال قوم من بعض الملاحين :

       كيف نعمل والحاجة ماسة إلى الحطب؟

       وإنما نهى النبي عن «تشقيق الخطب»، كأنه كره للخطيب أن يتكلف؛ والتكلّف مكروه، لأنه زائد عما يحتاج إليه، والمنقوص عما يحتاج إليه أخف على النفوس من الزائد، وذلك أن الزيادة على المقدار نقص مكرر، والتقصير عن المقدار نقص غير مكرر» (3).

       وهذا التحريف في القول بسبب نقطة واحدة نقل القول إلى معنى بعيد عن المقصود، وكان أن يحرم الناس من أمر حلل لهم، ولا تستغني عنه حياتهم، لأنه من أكبر الضرورات للمعيشة اليومية، وللحياة بوجه عام .

       وهذا أمر تُدُورِك قبل أن يأتي منه ضرر؛ ولكن هناك من الأخطاء الكتابية التي تسببت فيها نقطة واحدة ما أحدثت ضررًا بالغًا بمجموعة من الناس. وهو ضررٌ لا يمكن إصلاحه بحال من الأحوال :

       يقال أنه بلغ أحدَ خلفاء الأمويين أنه كثر عدد المخنثين في المدينة المنورة ؛ فأحب الخليفة أن يتأكد من عددهم ، ليعرف مدى خطورتهم على المجتمع هناك، وهل أصبح الأمر ظاهرة توجب اتخاذ إجراء حاسم؛ فكتب إلى واليه في المدينة أن «يحصيهم»، فأخطأ الكاتب ووضع نقطة على الحاء فصارت «يخصيهم».

       فلما ورد الخطاب على والي المدينة، ولعله كان ممتلئًا غيظاً منهم، سارع إلى القبض عليهم، وخصّاهم. ومن المؤكد أنه لما تبين اللبس لم يستطع أحد أن يصلح الخطأَ، أو يتدارك ما وقع، أو يعيد ما فات. وعملت النقطة عملاً كبيرًا لم يكن أحد يتصوره إلا إذا تذكّر الخطاب الذي يقال إن مروان كتبه عن عثمان لوالي مصر: «إذا أتاكم فلان فاقبلوه»، فكتبها «فاقتلوه»، على أن الرواية مهزوزة، ويشك في صحتها، خاصة وأن مؤدى الجملة لا يعني كثيرًا بلفظة «فاقبلوه» المرادة أصلاً .

       وقد يؤدي سوء الفهم إلى اتخاذ إجراء مؤذ، ولكنه مع الزمن القليل يندمل فيه الجرح، ويزول الأثر، وتعود المياه إلى مجاريها، ويصبح الأمر ذكرى فكهة، تقال في المجالس، وتروى في الكتب، ونأتي نحن ونستطرفها، وننقلها، ونتندّر بها، كما حدث في القصة الآتية :

       كتب بريد [عين الحاكم هناك في] أصبهان إلى محمد بن عبد الله بن طاهر :

       «إن فلانًا يلبس الخرلخيّة (لعلها الثوب المطرز بالذهب) ويجلس للنساء في الطرقات» .

       فكتب محمد إلى يحيى بن هرثمة، وكان والي أصبهان:

       «أشخص إليَّ فلانًا، وجرّ لحيته» .

       فصحف الذي قرأ عليه الكتاب، فقرأ:

       «وجزّ لحيته» .

       فجزّها، وأشخصه آية» (4).

       أرادوا شيئًا، وأراد الله شيئًا، فنفذت إرادة الله – سبحانه وتعالى – ولعل للرجل ذنبًا لايعلمه إلا الله، وَقّع عليه جزاءه وفاقًا .

       وسوء الفهم أَوقَعَ أذى بالغًا برجل كان على صواب، ظنّ قوم أنه خطأ فادح، ويعتبر عند عدم التحقيق إلحادًا ما بعده إلحاد؛ فأصبح الجانبان بسبب سوء الفهم متبادلي المكان، صار المخطئ هو المصيب، والمصيب هو المخطئ .

       «قال ابن سيّابة: حضرت جنازة بمصر، فقال لي بعض القبط :

       «يا كهل، من المتوفِّي؟» قلت: «الله عز وجل».

       فضربت حتى مت» (5).

       ابن سيابة صادق في رده حسب ما تقتضيه اللغة العربية، وتستوجبه قواعدها، والناس الذين أنكروا عليه هذا الجواب محقون أيضًا، بحكم الخطأ الشائع بين الناس إلى اليوم، فلا تجد من يقول «المتوفَّى، بفتح الفاء، وإنما دائمًا بكسرها».

       والجهلُ لا حدود له؛ فقليل من العامة يفرق بين مثل هذه الأمور الدقيقة الدلالة، المتقاربة الحدود، وهم أحرص على المحافظة على ما يعرفون، وأكثر شكاً وريبة فيما لا يعرفون، وإذا توج هذا سوء ظن بالمتكلم، فإن باب الاستعداد للفهم، وإزالة سوء الفهم، يغلق بمتاريس، لا أمل في فتحها، أو اختراق بابها، أو اجتياز حصونها، أو تجاوز سدودها، والقصةُ الآتيةُ توضح ذلك :

       «سأل المأمون ثمامة: ما جهد البلاء؟

       فقال : عالم يجري عليه حكم جاهل.

       قال: من أين قلت هذا ؟

       قال: حبسني الرشيد، ووكل مسرورًا (في تاريخ بغداد: الأبرش بدلاً من مسرور) بي، فضيق عليّ الأنفاس .

       ثم قرأ يومًا «والمرسلات»، فقال:

       «ويل يومئذ للمكذَّبين» .

       فقلت: إن المكذَّبين هم الرسل، ويحك!

       فقال: كان يقال: «إنك قدري فما صدقت، لا نجوتُ إن نجوتَ» فعانيت الموت يا أمير المؤمنين» (6).

       في هذه المرّة نافست الفتحةُ والكسرةُ النقطةُ في الأمثلة السابقة، وكأنها تريد ألا تجعل «المتوفى» وحدها في هذا الميدان. والأذى في كلا القصتين أذى بدني؛ ولكن أحدهما منقطع، جاء دفعة واحدة، والآخر أذى مستمر ومتفنن، واليد المؤذية في كلا الحالتين يدُ جاهلٍ ؛ ولكن الجاهل في أحدهما مسؤول، أما في الأخرى فغير مسؤول.

       وأبو العتاهية عانى بسبب سوء الفهم، فقد اتُّهم بالزندقة، ولا تزال بعضُ الكتب التي تتحدث في ترجمته عن حياته تورد ذلك. والسببُ عجيب؛ ولكنه لا يخلو من طرافة :

       قيل:

       كان عَلَى فصّ أبي العتاهية :

       «أبا زند تَق» .

       فكان الناس يتأولونه :

       «أنا زنديق» .

       واسم أبي العتاهية : «زند» (7).

       مسكين أبو العتاهية، أتته التهمة من حيث أراد الأجر على حثّه نفسه على التقوى، بطريقة مستمرة، لم يجد لها أفضل من فصّ خاتمه، الذي ينظر إليه في كل لحظة، ولا يتهيأ له أن ينساه، فأصبح تذكرة دائمة لعاذليه، ووسيلة مواتية لشانئيه.

       وكان الناس في ذلك الزمان، وإلى وقت قريب، بل بعضهم إلى الآن، يحرصون على اقتناء خاتم، ينقشون على فصّه جملة، يختارونها بحيث لا يشبهها جملة أخرى. وغالبًا ما تكون دينية، وتقوم مقام «الإمضاء» و «التوقيع» في عصرنا الحاضر، وليس أكثر أمانًا لحفظه من جعله في الأصبع، بحيث لا يستطيع أحد المساسَ به، سواء كان صاحبه نائمًا أو متيقظاً .

       ولعلنا نذكر قصةَ الجاحظ التي تروي أن امرأة طلبت منه أن يتبعها، فلما وصلت إلى دكان صائغ، أشارت له إلى الجاحظ، وقالت: «مثل هذا». وبعد أن انصرفت سأل الجاحظ الصائغَ عن الأمر، فقال: إنها أحضرت خاتمًا لأنقش على فصّه صورةَ الشيطان، فلما قلتُ لها: إني لم أَرَ الشيطان قط. قالت لي: أنا احضره لتراه، فجاءت بك!

       فلم تكن فقط الجمل هي التي تنقش، وإنما الصور كذلك، والصور الوهمية أيضًا !

       هذه أمور لعبت الأقوالُ في سوء الفهم فيها دورًا، وجاء بعض التضليل بسببها، واختلّت بعض الموازين نتيجةً لها، وبقي بسببها ضررٌ مؤقت، أو أذى دائم. وهناك أمور جاء سوءُ الفهم فيها بصورة فعل، أو سلسلة من الأفعال، وهي أيضًا ذات نتائج مماثلة، وحصاد متشابه؛ والقصة التالية عن الحكم حاكم الأندلس، وزوجته، وقيل في بعض الروايات جاريته :

       «ذكر عن بعض الخاصة أن كريمة من كرائم الحكم – رحمه الله – ذكرت أن الحكم قام عنها ليلاً، فساء به ظنُّها، على ما يتوهم النساء، ويسبق إليهن من وجه الغيرة، قالت:

       فقفوت أثرَه، فوجدتُه في بعض الأماكن يصلي ويدعو.

       قالت: فلما انصرف أعلمته بما ظننت، وبما فعلت، وبما رأيته عليه من الصلاة والدعاء.

       قالت، فقال لي: كنت قد قلدت محمد بن بشير القضاء بين المسلمين، فكانت نفسي عليه طيبة، وقلبي به واثقًا، وكنت مستريحًا من أخبار الناس وظلاماتهم؛ لِما علمت من عدله وثقته، حتى أعلمت هذه العشية أنه في السياق، وأن الموت قد حضره، فقلقت لذلك، واغتممت، وقمت في هذه الساعة أدعو الله، وأبتهل إليه، أن يوفق لي رجلاً عوضًا عنه؛ تسكن إليه نفسي، فأوليه القضاء، قضاء المسلمين بعده» (8).

       وفي مصدر أندلسي آخر تأتي القصة هكذا، وفيها بعض التفصيل المفيد :

       «فلما توفي ذلك القاضي الحكم ابن هشام إكتأب الحكم لمصابه، وجزع على وفاته، فحُكي عن «عجب»، جاريته، قالت:

       إني لفي الليلة التي أُعلم فيها بوفاة القاضي عنده بائتة، فلما كان في جوف الليل فقدته عن مضجعه، فخرجت أطلبه، فإذا هو قائم يصلّي في دكان (المصطبّة) الدار؛ فقعدت فيما يليه أنتظره؛ فسجد سجدة أطالها، حتى غلبتني عيناي، ثم انتبهتُ، فإذا هو ساجد على مثل حالته، ثم غلبتني عيناي، فما راعني إلا وهو يحركني لانصداع الفجر.

       فأقبلت عليه أسأله: ما الذي أقلقه عن فراشه؟

       قال: خطب عظيم، ومصاب جليل؛ كنت قد تفرجت من أمور الرعية بالقاضي الذي كان الله قد كفاني به ما كفاني، فخشيت ألا أصيب منه خلفًا؛ فدعوتُ الله – عز وجل – أن يوفق لي قاضيًا مثله، أجعله بيني وبين الناس .

       فلما أصبح دعا بوزرائه، ثم قال لهم:

       تخيروا للرعية من يتولى الحكم فيهم، واستعين به على ما قُلِّدتُه من أمورهم، فدله مالك بن عبدالله القرشي على محمد بن بشير» (9).

       يبدو أن الرواية الأولى أقرب للصحة في أن المتوفى هو محمد بن بشير، وليس الحكم بن هشام، إلا إذا كانت هذه حادثة وتلك أخرى، وتكرر في الثانية ما حدث في الأولى .

       هذه القصة جاء فيها سوءُ الظنّ من الفعل لا من القول. وهناك قصص يشترك في سوء الظن فيها القول والفعل. ومن النماذج في ذلك القصة الآتية :

       «كان ابن عباس يقول:

       من أهديت إليه هدية، وعنده قوم، فهم شركاؤه فيها؛ فأهدى إليه صديق ثيابًا من ثياب مصر، وعنده أقوام؛ فأمر برفعها؛ فقال له رجل:

       ألم تخبرنا أن من أهديت له هدية، وعنده قوم؛ فهم شركاؤه فيها؛ فقال:

       إنما ذلك فيما يؤكل ويشرب ويشم؛ فأما في ثياب مصر فلا» (10).

       لقد أساء جلساءُ عبد الله بن عباس فهمَ ما قاله عبد الله؛ فأبان لهم ما خفي عليهم، وفصّل ما لم يفصله .

       وتماثل هذه القصةَ في سوء الفهم بالقول مما يتبعه فعل يتأثر به، القصةُ التالية:

       «قال بعض السلف:

       كيف أقبل شهادَتك، وقد سمعتك تقول لمغنية: أحسنتِ؟

       قال: أليس لم أقل ذلك إلاّ بعد سكوتها؟

       فأجاز شهادته».

       لقد أزال المستحسن لغناء المغنية ما جاء في ذهن القاضي من فهم أنه كان يستحسن غناءها، وأوهم أنه إنما استحسن سكوتها عندما سكتت؛ فسوء الفهم أولاً كاد يحرمه قبولَه شاهدًا، فكلمته لفظ، وما كاد يقع فعل.

       وقد يقصد سوء الفهم أصلاً في التعبير، لهدف معين، قد يكون مؤقتًا مثل ما فعل شريح في القصة الآتية :

       «خرج شريح من عند زياد في علته، فسئل عنه، فقال:

       تركته يأمر وينهى. فقام الواعية، فقيل له: ألم تقل كذا وكذا؟

       قال: تركته يأمر بالوصية، وينهى عن النوح» (11).

       وبعد:

       فإن الحيل كلها تكاد تستند في نجاحها إلى إتقان سوء الفهم المتعمد المخطط له جيدًا، فالفهم لما يقال أو يعمل في هذه الحيل لا يتم كشفه إلا بعد وقوعه، عندما يكشف المستور، ويبين المخبأ؛ فالذي يضع في يده حب القمح يغري به طيرًا، متظاهرًا أنه لإطعام الطائر ولمصلحته، إنما يخبئ ما لا يظهر، ولا يريده أن يُعلم ؛ فهو يريد أن يصطاد الطير بهذه الحيلة، لمصلحته هو لا لمصلحة الطير، وهكذا كل أمر فيه حيلة .

*  *  *

الهوامش :

 

(1)         ثمرات الأوراق : 54 .

(2)         الكشكول : 2/379 .

(3)         البصائر: 6/114، ربيع الأبرار: 1/618 .

(4)         ربيع الأبرار: 1/635 .

(5)         البصائر: 1/155 .

(6)         ربيع الأبرار : 1/619 .

(7)         البصائر: 6/76 .

(8)         قضاة قرطبة : 87 .

(9)         أخبار مجموعة : 110 .

(10)     عيون الأخبار : 3/43 .

(11)     البصائر: 5/192، ربيع الأبرار: 1/716 .

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1428هـ = سبتمبر – نوفمبر 2007م ، العـدد : 9–10 ، السنـة : 31.